لقد تابعت ما حدث طيلة نهار ٢٥ إبريل ٢٠١٦م عن كثب.. وتعمدت
كتابة التاريخ كاملا؛ لأني على يقين أن هذا اليوم لن يمر المؤرخون عليه مرور
الكرام، فلن أتحدث عن دعوات لتظاهر أو تسخين من خلف شاشات الكمبيوتر وعلى أرض
الواقع صفر، بل أني لن أتحدث حتى عن قضية جزر أو مظاهر احتفال.. فقط سأضع خطا أحمر
تحت أربعة مشاهد وقعوا بهذا اليوم يجعلوا أي عاقل يرتعد لما وصلت إليه التركيبة
النفسية للشعب المصري.
(المشهد الأول)
كان لعلم السعودية في أيدي البسطاء من أبناء الشعب، يرفرف على
أرض مصر بذكرى تحرير سيناء والأغرب أن هذا يحدث بمباركة النخبة!! ما هذا العبث
والعار الذي حل علينا بقدرة قادر على مرأى ومسمع من العالم أجمع؟! مناسبة وطنية
خاصة بمصر يُرفع خلال الاحتفال بها علم لدولة أخرى.. لماذا وبأي منطق أو مبرر؟!
وبنظرة تأملية للأيام الماضية تجد أن تلك النخبة كانت تنعق وتنوح من أجل منع
النقاب بمصر؛ لأنه عادة بدوية وليدة الخليج، ومن إفرازات الوهابية على حد زعمهم،
واليوم فجأة يباركون رفع علم السعودية مهد الوهابية أيضًا على حد قولهم؟!
ثم أني لا أعرف منذ متى تخرج العامة للاحتفال بتحرير سيناء
المحررة منذ عشرات الأعوام؟! فنحن لم نعتاد هذا أصلا وأغلب المصريون لو لم يكن
اليوم أجارة لن يتذكروه من الأساس.. ثم أن هذه المرة تحديداً نقصت سيناء جزيرتين
بعد أن تخلت عنهم أو باعتهم أو أرجعتهم -سمها كما يلائمك- الحكومة المصرية
للسعودية! أتحتفلون نيابة عن السعوديين مثلا؟ أم أنكم سعداء لنقص سيناء هذا العام
تحديدًا عن كل عام؟! ثم ألم نكن منذ ثلاثة أعوام فقط نصف من يرفع علم السعودية بأي
مظاهرة بأنه أرهابي!! ألم يلعن الشعب كله كل من رفع هذا العلم في جمعة قندهار؟!
هذا العبث ذكرني بالقول المأثور من فيلم ظرف طارق (واحد مصري بيتفرج على ماتش مصر
ونيجريا هيشجع إيه يعني؟! أكيد نيجريا).
(المشهد الثاني)
كان لمواطن قرر أن يسجد سجدة شكر مطولة أثناء الاحتفال
ولا أعلم سببا واضحا ليسجد أصلا؟! المهم أن الناس ألتفت حوله وهم يرقصون ويصفقون،
في مشهد عبثي قميء يشعل ذاكرتك فورا ولا إراديا بفيلم "فجر الإسلام"
عندما جلس واحد من أتباع سيدنا (محمد صلى الله عليه وسلم) يقرأ قرآنا كريما ويلتف
من حوله الكافرون يصفقون ويغنون (نحن غرابا عك عك، عكوا إليك عانية، عبادك اليمانية،
كيما نحج الثانية، لبيك اللهم هبل، لبيك يحدونا الأمل، الحمد لك، والشكر لك، والكل
لك، يخضع لك، لبيك اللهم هبل!!)
ولم يتوقف العبث عند هذا الحد بل قرر واحد ممن يصفقون أن يشاركه
السجود لله، وبدلا من أن يسجد بين يدي الله خاشعا ظل يرقص بمؤخرته رقصة بطوط لا
وإيه وهو ساجد!! هل تخيلت المنظر؟! وبوصف أكثر دقة وإشمئزازا لما حدث كان كأنه
سليف يتعمد إهانة ذاته بحضرة المسترس!!
ثم فجأة يقرر المواطن الأول أن ينهي سجدته المطولة، ويستقيم
جالسًا على ركبتيه بوضع الدعاء ويرفع يديه تضرعا لله وسط الغناء والرقص والتصفيق،
ويبدوا أن إيقاع الموسيقى كان أشد من إيقاع خشوعه فقرر ألا يدعو الله، فبدأ بوصلة
رقص وهو على نفس وضع الخشوع ويده المتجهة تضرعا للسماء راح يلوحها يمينا ويسارا
طربا!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، صحيح شعب متدين بطبعه!
(المشهد الثالث)
كان لسيدة خمسينية، تضع حذاء عسكري (بيادة) على رأسها وتجلس وسط
أعلام السعودية المرفرفة على أرض مصر!، لقد توقفت أمام هذا المشهد لوقت طويل..
طبعا مفهوم أنها تضع ذاك الحذاء إجلالا للجيش المصري وأفراده على طريقتها وإن كانت
مرفوضة فهي حرة، وكلمة حق الكل أيضا يحترم ويجل كل فرد بالجيش المصري، بل ونقدس كل
قطرة دماء نزلت على أرض سيناء لتحررها، وكان من الممكن لهذا المشهد أن يكون مقبولا
على مضض بهذا المناسبة وعيد التحرير.. لولا علم السعودية الذي احتل الكادر، أي عبث
هذا الذي أراه أترفع هذه السيدة حذاء الجندي على رأسها.. لتدوس دماءه بحذائها؟! يا
مثبت العقل يا رب!
(المشهد الرابع)
كان لمظاهرة تهتف بإحدى شوارع الدقي تقريبا، ويبدوا أن الهتاف
لم يعجب سيدة محجبة يظهر عليها الاحترام كانت تقود سيارتها، فقررت أن تسكت الهتاف
وتعاقب المتظاهرين بطريقتها، فداست بنزينا ودخلت بسرعة بين الجموع في مشهد كارثي
تجتمع فيه السادية واللإنسانية والإجرام معا!
المهم أنها لم تستطع التحرك لمسافة طويلة وسط الزحام والصراخ،
فقرر المتظاهرون حماية السيدة -آه والله يا شيخ تصدق؟- وتطويق سيارتها حتى لا
يطولها الأذى من الغاضبين جراء فعلتها، وطبعا أقشعر جسد السيدة المحترمة لهذا
الفعل النبيل، وردت الجميل بأن داست بنزينا مرة ثانية وتحركت بسرعة كبيرة لتسحل
تحت إطاراتها بعضا مما كانوا يحموها!!
حقيقة أنا لا أعرف ما الذي أصاب الشعب المصري لتتشوه تركيبته
النفسية بهذا الشكل المخيف الذي يسمح لسيدة -وأشدد على كونها سيدة من الجنس
الناعم- أن تقرر فعص أروحا تحت إطارات سيارتها بدم بارد، ودون أن يطرف لها رمش؟!!
كيف فعلت هذا ومن أين أتت بتلك الجرأة؟! أهي حقا لا تدرك كم الإجرام واللإنسانية
بفعلتها؟! أم أنها مقتنعة أن تلك الأرواح لم يعد لها ثمن على أرض مصر لتخف من
سداده؟! أم تخيلت أنها بقتل الأنفس تكرس مبادئها وتعليها تماما كما يفعل
الإرهابيون بأبناء الوطن؟!! حزينة علينا والنبي.
لقد تشوهت فطرة الشعب للأسف، وأختلت كل القيم سواء الدينية أو
الوطنية أو الإنسانية داخله، بل وأصبحت الازدواجية من سماته الأصيلة، وأعترف أني
قد تأكدت من هذا بما لا يدع مجالا للشك، وحيث أني مصرية، وأنتمي بكل ذرة في كياني
وكل نقطة في دمي لهذا النسيج.. فمجرد أن وقع نظري على رابط استماع لألبوم
عمرو دياب الجديد، نسيت المشاهد وما بها و٢٥ أبريل وما حل فيه بل حتى نسيت سيناء
وتحريرها، وروحت أقضي مساء ذات اليوم نفسه أستمع له بشغف في مشهد حي للازدواجية
المصرية الأصيلة.. يلا ربنا يشفي الجميع إن شاء الله.